عرض مشاركة واحدة
قديم 12-12-2013, 10:39 AM
  #2
الاستاذ
المدير العام
 الصورة الرمزية الاستاذ
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
العمر: 33
المشاركات: 36,745
افتراضي رد: بحث في القانون الجنائي الدولي مدى سيادة الدولة في المسائل الجنائية

حدود السيادة داخل الإقليم

تبين لنا مما سبق أن سيادة الدولة تنتهي عند تخومها فرجل البوليس أو المحقق القضائي أو القائد العسكري لا يستطيع اللحاق بمجرم تعدى حدود دولته ولا القبض على جندي فرّ إلى ما ورائها...
ولكن هل هذه السيادة مطلقة غير محدودة داخل هذا الإقليم وبعبارة أخرى هل هي سارية على جميع سكان إقليم الدولة بدون استثناء ؟ الجواب على ذلك أن سيادة الدولة ليست مطلقة كل الإطلاق داخل إقليمها بل هناك قيود تقلل من هذه السيادة في أمور معينة، ولكن هذه القيود لا تخرج عن كونها استثناءات من حق السيادة الإقليمية إذ الأصل أن تكون سيادة الدولة كاملة في بلادها وسارية على كل السكان فإذا وجد استثناء خارج عنها فلا يكون من شأنه إعطاء حق من حقوق السيادة لدولة أجنبية إذ لا توجد أكثر من سيادة واحدة على الإقليم الواحد.
استثناءات من السيادة الإقليمية - الممثلون السياسيون:
ويمكن أن نذكر أهم هذه الاستثناءات فيما يلي:
1 - استثناء السفراء والممثلين السياسيين ومن هم في حكمهم من السيادة الإقليمية فهم يتمتعون بامتيازات خاصة تخرجهم من سلطة الدولة التي يقيمون فيها.
القوى الحربية الأجنبية:
2 - استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالسفن الحربية الأجنبية الراسية في مياه الدولة الإقليمية إذ هي خارجة عن سلطتها وكذلك الجيوش الأجنبية التي توجد أثناء السلم في إقليم الدولة برضائها أو نتيجة لاتفاق خاص.
الأجانب المتمتعون بالامتيازات:
3 - رعايا بعض الدول الأجنبية في البلاد التي يتمتع فيها الأجانب بالامتيازات وسنتكلم على كل من هذه الاستثناءات فيما يلي:

1 - امتيازات الممثلين السياسيين

مهمة الممثل السياسي:
يتمتع الممثلون السياسيون بحقوق وامتيازات خاصة وضعت - لحمايتهم ولتمكنيهم من القيام بمهمتهم، وهذه الامتيازات قديمة يرجع بعضها إلى أقدم العصور إذ يذكر التاريخ أنه في العصور القديمة والعصور الوسطى كانت الدول تتبادل الممثلين وكانت تكرم وفادتهم في البلاد التي يبعثون إليها [(11)].
من يتمتع بالامتيازات السياسية - الممثلون السياسيون ومن يتصل بهم:
وهذه الامتيازات تجعل الممثل السياسي غير خاضع لسلطان الدولة التي توفد إليها إذ هو يمثل دولة أجنبية مستقلة ويجب أن يكون بمأمن من سلطة الدولة التي يقيم فيها حتى يتمكن من القيام بمهمته على الوجه الأكمل لا سيما وأن مهمته كبيرة دقيقة فهو يوثق العلاقات بين دولته والدولة المقيم لديها ويقوم بالمفاوضات اللازمة بينهما ويراقب سير الأحوال في الدولة التي يقيم فيها ويخطر دولته بما يهم منها ثم هو يحمي رعايا دولته ويشرف على أمورهم وبعبارة أخرى يمكن تلخيص مهمة الممثل السياسي في ثلاث كلمات وهي المفاوضة والمراقبة والحماية ولا يمكنه القيام بكل ذلك إذا كان مهددًا بأعمال السلطة التي يمكن أن تتخذها الدولة بناءً على سيادتها الإقليمية، لذلك كانت هذه الامتيازات متعلقة بالقائمين بأعمال التمثيل السياسي والأشخاص المتصلين بهم فهي تحمي رئيس الهيئة التمثيلية وزوجته وأفراد عائلتيه الذين يقيمون في دار السفارة دون أن يكون لهم عملاً آخر، وتحمي أيضًا رجال الحاشية الرسمية للمثل السياسي كمستشاري السفارة وسكرتيريها وقد جرى العرف من باب المجاملة على مد نطاق هذه الامتيازات إلى الحاشية الغير رسمية كالخدم والتابعين الخصوصيين، وذلك بشرط أن لا يكون من رعايا الدولة صاحبة الإقليم - إلا أنه يجوز للمثل السياسي أن يتنازل عن الحماية التي يتمتع بها أفراد حاشيته الغير رسمية ويتركه للقضاء المحلي إذا ارتكب جريمة تستدعي العقاب - أما امتيازات الممثل السياسي ذاته فلا يكفي في رأي كثير من الشراح أن يتنازل هو عنها إلا إذا كان قد فعل ذلك بأمر حكومته أو قبلت حكومته هذا التنازل ويسري هاذ الشرط على أفراد عائلة الممثل الذين يتمتعون معه بالامتيازات وقد حدث في سنة 1906 أن اتهم ابن القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل المدعو كارلوس وادنجتون بارتكاب جريمة قتل ورضي المتهم ووالده باختصاص القضاء المحلي فلم تكتفِ حكومة بروكسل وانتظرت ورود قبول من حكومة شيلي، وقد قبلت فعلاً هذه الحكومة إجراء المحاكمة في بلجيكا فقدم المتهم لمحكمة جنايات بريان البلجيكية وقضت هذه المحكمة ببراءته، ولتعلق هذه الامتيازات أصلاً بالممثلين السياسيين أطلق عليها تعبير الامتيازات السياسية.
رؤساء الدول:
إلا أنها ليست قاصرة على الممثلين السياسيين وحدهم بل يتمتع بها أيضًا رؤساء الدول كالملوك ورؤساء الجمهوريات الذين يمرون بأرض دولة غير دولتهم أثناء توليهم الحكم لأن الملك أو رئيس الجمهورية هو الممثل الأعلى لدولته بل هو رمزها ويجب أن يتمتع بهذه الامتيازات احترامًا لسيادة دولته ولا تقتصر الحماية على شخصه بل تمتد إلى أفراد عائلته الذين يصحبونه وكذلك رجال حاشيته إذ لا يخضعون جميعًا لسلطة الدولة التي يمرون بأرضها - وإنما تسقط هذه الامتيازات عن رئيس الدولة إذا وجد في إقليم دولة أخرى ممنوع من الإقامة فيها أو أقام في إقليم دولة مشتبكة في حرب مع دولته ويرى فريق من الكتاب إن الامتيازات تسقط عنه إذا كان مسافرًا بحالة تنكر ineognito على أنه يستطيع في الواقع أن يظهر شخصيته ليحتمي بالامتيازات [(12)]، ويتمتع بالامتيازات السياسية أيضًا طبقات أخرى من الأشخاص الذين يقومون بأعمال تعتبر في حكم تمثيل الدول فيتمتع بها أعضاء لجنة التعويضات التي أنشئت طبقًا لمعاهدة فرساي (المادة (333) وما يليها) لتحديد الأضرار التي يجب دفع تعويض عنها من الدول المهزومة وأعضاء بعض لجان الدول الأخرى كلجنة نهر الدانوب التي تشرف على الملاحة فيه ويتمتع بها ممثلو الدول لدى عصبة الأمم وممثلو العصبة ذاتها وأعضاء محكمة العدل الدولية التي أنشئت طبقًا لعهد عصبة الأمم وأعضاء محكمة التحكيم التي أنشئت طبقًا لقرارات مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في الهاي سنة 1907، ويتمتع بها أيضًا ممثلو البابا إذ يعتبر أن للبابا شخصية دولية تشبه شخصية الدول المستقلة وإنما من نوع شاذ إذ ليس له إقليم أو رعية.
مدى سريان الامتيازات:
ويبدأ سريان الامتيازات بالنسبة للممثل السياسي من الوجهة القانونية من وقت تقديم أوراق اعتماده وتنتهي بانتهاء وظيفته إذ هذه هي الفترة التي يقوم فيها الممثل السياسي بالمهمة التي وضعت الامتيازات من أجلها، ولكن قضت المجاملات بمد أثر الامتيازات وجعلها سارية من يوم وصول الممثل السياسي لمحل وظيفته إلى اليوم الذي يغادره فيه، وإنما يستثني كثير من الكتاب الممثلون الذين يكونون من جنسية الدولة التي يوجد بها مقر التمثيل السياسي فالوطني الذي تكلفه دولة أخرى بتمثيلها في بلاده لا يعتبر بذلك خارجًا عن اختصاص السيادة الإقليمية لدولته وقد نصت بعض الدول على ذلك في قوانينها فقضى بذلك مثلاً القانون الألماني الخاص بالترتيب القضائي (المادة الثامنة عشرة)، ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الوظيفة لا تكفي وحدها لإخراج الشخص من سيادة الدولة التي يدين لها بالرعوية وإذا قيل بإخراجه منها فهناك صعوبات أخرى تحول دون إدخاله تحت سيادة الدولة التي يمثلها، وبذلك لا يكون خاضعًا لسيادة أي دولة وفضلاً عن ذلك فيقولون إن الدولة التي تعين سفيرًا لها من رعايا الدولة التي توجد بها دار السفارة تقبل بذلك إخراجه من دائرة الامتيازات السياسية ومع أن هذا الرأي هو الرأي الراجح إلا أنه غير متفق عليه إذ يقول آخرون بأن الممثل السياسي يخرج عن سلطة السيادة الإقليمية للدولة ولو كان من رعاياها ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الامتيازات السياسية متعلقة بالوظيفة وعلى أن الدولة التي تقبل بدون تحفظ أن يكون أحد رعاياها سفيرًا لدولة أجنبية إنما تتنازل بذلك ضمنًا عن حقوق سيادتها عليه متى كانت تتناقض مع الامتيازات السياسية [(13)].
ولا تسري الامتيازات السياسية إلا في الدولة التي يباشر فيها الممثل السياسي وظيفته، فلا يتمتع بها في إقليم دولة أخرى ولو كان مارًا به في طريقه إلى مقر عمله وذلك لأن هذه الامتيازات إنما تقررت على سبيل الاستثناء فلا يجب التوسع فيها كما يجب أن لا تتعدى الحكمة التي وضعت من أجلها وهي تمكين الممثل السياسي من القيام بمهام وظيفته بعيدًا عن أي مؤثر في الدولة التي يعمل فيها وبما أن وظيفته قاصرة على الدولة التي يعتمد فيها فيجب أن تكون الامتيازات التي يتمتع بها قاصرة على إقليم هذه الدولة على أن بعض الكتاب يقولون بعكس ذلك ويقولون إن القبض على ممثل سياسي أثناء وجوده في إقليم دولة غير الدولة المعتمد لديها أو حرمانه من الامتيازات السياسية يمس بسيادة الدولة التي يمثلها وأن الدولة التي تقبل مروره في إقليمها تعترف ضمنًا بصفته وبذلك يجب عليها احترامه ولكن في هذا الرأي مغالاة في صفة التمثيل السياسي إذ هذه الصفة لا توجد في الحقيقة إلا في الإقليم الذي يعتمد فيه الممثل والذي أوفد له خصيصًا أما في غير هذا الإقليم فهو لا يخرج عن كونه شخصًا عاديًا وشأن التمثيل السياسي في شأن الوظائف الأخرى التي لا ينتج أثرها إلا في الدائرة المعينة لها - وهناك من الكتاب من يقول بأن الممثل السياسي تكون له حرمة في الأقاليم الأخرى التي يمر بها وإنما لا يعفي من قضائها المحلي إذا أتى عملاً يختص هذا القضاء بنظره [(14)] كما إذا ارتبط بدين في تلك الأقاليم أو ارتكب فيها جريمة - على أنه لا يوجد في الواقع ما يدعو للتفرقة بين حرمة الممثل السياسي وبين إعفائه من القضاء المحلي إذ كلاهما من الامتيازات السياسية فإذا قيل بأن الممثل يحتفظ بصفته السياسية حتى في البلاد التي لم يعتمد فيها فلا بد من منحه كل الامتيازات السياسية دون تمييز أما القول بأنه يتمتع بالحرية التي للسفراء ولكن يخضع للقضاء المحلي ففيه تناقض وكان أولى بالكتاب الذين يأخذون بهذا القول أن ينضموا للقائلين بحرمان الممثل من الامتيازات عند وجوده في بلاد ليس معتمدًا فيها.
بيان الامتيازات السياسية:
والآن وقد عرفنا الأشخاص الذين يتمتعون بالامتيازات السياسة ومعناها ننتقل إلى بيان هذه الامتيازات خصوصًا ما كان منها متعلقًا بسلطة الدولة في المسائل الجنائية - فهذه الامتيازات يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - الحرمة الشخصية وحرمة المسكن.
2 - الإعفاء من القضاء المحلي.
3 - الإعفاء من الضرائب.
أولاً: الحرمة:
يتمتع الممثل بحرمة لشخصه ولمسكنه فالحرمة الشخصية تجعل ذات الممثل السياسي مصانة كما تجعل الحكومة المعتمد لديها مكلفة بحمايته من كل اعتداء وإذا وقع عليه أي تعدٍ وجب عليها أن تتخذ الإجراءات اللازمة للقبض على المعتدي وتقديمه للمحاكمة - وقد وضع في كثير من القوانين نصوص خاصة تقضي بعقاب من يعتدي على الممثلين السياسيين أو يقذف في حقهم ومن ذلك قانون العقوبات الأهلي إذ نص في المادة (161) على عقاب من يعتدي بسبب وكلاء الدول السياسيين والقناصل والافتراء عليهم بسبب يتعلق بوظائفهم، وذلك بإحدى طرق العلنية المنصوص عنها في باب الجنح والجنايات التي تقع بواسطة الصحف وإنما يشترط لحماية الممثل السياسي أن لا يتسبب بخطئه أو بعمله في حصول الاعتداء عليه كأن يشترك في نزاع أو ثورة أو يعتدي على أشخاص فيضطرهم إلى مقابلة عمله بمثله، وكذلك يشترط أن تكون العلاقات السياسية قائمة ومنتظمة بين دولته وبين الدولة التي يقيم فيها أو تكون هذه الدولة معترفة قانونًا بدولته وبصفته السياسية فإذا لم يكن هناك علاقات سياسية فلا توجد تلك الحرمة الخاصة وقد أثيرت هذه المسألة في بعض الدول الأوروبية فحدث في سنة 1921 إن اعتدى إيطالي بالقذف والتهديد على أحد أعضاء بعثة روسية اقتصادية في إيطاليا وبالرغم من أن حكومة إيطاليا كانت قد عقدت اتفاقًا مع حكومة السوفيت الروسية تقرر بمقتضاه تمتع أعضاء هذه البعثة بالامتيازات السياسية فإن محكمة الجنح في روما قضت بتاريخ 20 مايو سنة 1921 بأن هذه الجريمة تعتبر أنها ارتكبت ضد شخص عادي وليس ضد ممثل سياسي لأن إيطاليا لم تعترف بعد قانونًا بجمهورية السوفيت ولم تنشأ بينهما علاقات سياسية [(15)]، وكذلك وقع في سنة 1923 أن قتل المندوب الذي أرسلته حكومة السوفيت أثناء انعقاد مؤتمر لوزان فاحتجت الحكومة السوفيتية على ذلك باعتبار أن الحكومة السويسرية قصرت في واجبها نحو حماية الممثل الروسي، ولكن حكومة سويسرا أجابت بأنها لم تقصر مطلقًا إذ لم تكن تعلم بوجود ممثل رسمي للسوفيت حتى تتكفل بحمايته.
المسكن - إيواء المجرمين:
ولمسكن الممثل السياسي حرمة أيضًا فلا يجوز لرجال السلطة في الدولة أن يدخلوه بدون تصريح منه ولا أن يجروا فيه أي عمل رسمي كتحقيق أو تفتيش أو إعلان وقد كانت هذه الحرمة مقررة قديمًا لكل الحي الذي توجد فيه دار السفارة وفعلاً يوجد مثل هذا النص في بروتوكول بكين الصادر في سنة 1901 بالنسبة لحي السفارات في تلك المدينة - ولكن لا يحق للممثل السياسي بناءً على هذه الحرمة أن يحمي المجرمين أو يسمح بإيوائهم في دار السفارة فالمجرمون الذين يحتمون بهذه الدار يجب تسليمهم للسلطات المحلية التي تطلبهم سواء أكانوا من المجرمين السياسيين أو من المجرمين العاديين - ولا يعد هذا من نوع التسليم الذي ذكرناه آنفًا لأن دار السفارة لا تخرج عن كونها جزءًا من إقليم الدولة التي توجد بها [(16)] - ولذلك إذا أصر السفير على عدم تسليم مجرم احتمى بدار سفارته لرجال الدولة صاحبة السيادة الإقليمية كان لوزير خارجية هذه الدولة أن يطلب من حكومة السفير إصدار أمرها بتسليم المجرم فإذا امتنعت هي الأخرى كان لرجال السلطة المحلية أن يدخلوا عنوة في دار السفارة ويقبضوا على المجرم وللسلطة المحلية أن تحيط برجالها دار السفارة في أثناء هذه المفاوضات حتى تأمن هروب المجرم وقد حصل ذلك في الحادثة التي أشير إليها آنفًا وهي حادثة القتل التي ارتكبها نجل القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل إذ حاصر رجال الدولة البلجيكية دار السفارة حتى انتهت المفاوضات بقبول حكومة شيلي بأن تتنازل عن الامتيازات بالنسبة للمتهم وتسليمه للسلطة المحلية - وفي الواقع لا يوجد من الوجهة القانونية ما يبرر إيواء مجرم بدار سفارة إذ لا يجوز للسفير أو الممثل السياسي أن ينتزع شخصًا من يد العدالة مستندًا في ذلك على حرمة مسكنه لأن هذه الحرمة استثنائية ولا توجد إلا بالقدر اللازم لتمكين الممثل السياسي من أداء وظيفته ولا يدخل في هذه الوظيفة مساعدة مجرم على الإفلات من العقاب الذي يجب على الدولة المختصة أن توقعه عليه جزاء ما قدمت يداه لا سيما وأن ذلك من الأمور الداخلية التي يجب أن لا يتداخل السفير الأجنبي فيها حتى لا يشجع المجرمين أو يساعد على انتشار الفوضى - على أنه أصبح من المسلم به الآن من الدول الأوروبية أن ليس للممثلين السياسيين حق إيواء المجرمين في دور السفارات، وذلك بدون تمييز بين المجرمين العاديين والمجرمين السياسيين [(17)]، ولكن هذا الحق لا يزال موجودًا للسفراء في أمريكا الجنوبية بالنسبة للمجرمين السياسيين، وذلك بسبب القلاقل والثورات المتعددة بل قد نظم هذا الحق في المعاهدة التي عقدت بشأن القانون الجنائي الدولي في مونتفيديو بتاريخ 23 يناير سنة 1889 بين الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وبراجواي وبيرو وأراجواي وقد نص في المادة السابعة عشرة منها على احترام إيواء اللاجئين السياسيين في دور السفارات إنما يجب على رئيس السفارة أن يخطر الحكومة المعتمد لديها بكل حالة ولهذه الحكومة أن تطلب إخراج اللاجئ من الإقليم الوطني في أقرب وقت مع إعطائه كل الضمانات للمحافظة على حرمة شخصه، أما المجرم العادي الذي يلجأ لدار سفارة فقد قضت هذه المادة أيضًا بوجوب تسليمه للسلطات المحلية في الدولة الإقليمية إما فورًا أو بناءً على طلب وزير الخارجية فيها ولا تقضي حرمة المسكن بإعطاء السفير الحق في حبس أفراد داخل دار سفارته دون أن يكون للسلطة المحلية أن تتداخل لمنع ذلك لأن دار السفارة ليست جزءًا من إقليم الدولة التي يمثلها السفير كما سبق القول وقد حدث في سنة 1896 أن صينيًا يدعى سون بتن اتهم بالاشتراك في مؤامرة ضد ولي عهد كانتون وهرب إلى لوندرة فحدث أنه كان مارًا أمام السفارة الصينية في العاصمة الإنجليزية فقبض عليه بعض خدمها وأدخلوه فيها بالقوة وحبس هناك فتداخلت الحكومة البريطانية في الأمر وأخذت تراقب دار السفارة برجال من البوليس الإنجليزي وطلبت إطلاق سراح الصيني وانتهى الأمر فعلاً بإطلاق سراحه وكان تداخل الحكومة الإنجليزية في هذه الحالة تقصد به وضع حد للجريمة التي ارتكبها رجال السفارة بحبسهم ذلك الصيني بدون وجه حق على أرض الدولة الإنجليزية ولكن السلطة القضائية لم تتدخل في هذا الموضوع [(18)].
وليس للسفير أو الممثل السياسي اختصاص قضائي juridiction contentieuse على رجال سفارته فلا يمكنه أن يفصل في قضاياهم أو يحاكمهم أو يقضي عليهم بعقوبات مدنية ولكن نجد في بعض العصور السابقة أمثلة غريبة تدل على أن السفير كان يستعمل أحيانًا بعض حقوق السلطة القضائية والتنفيذية على موظفي سفارته فقد روي أن سفيرًا إسبانيًا في فينسيا شنق أحد خدمه على شباك دار السفارة - ولكن اتفق أكثر الشراح وجرى العمل على أن يكون للسفير إجراء بعض أعمال السلطة الولائية guridiction gracieuse كقبول الوصايا وكتحرير شهادات ميلاد أو وفاة والتصديق على العقود وغير ذلك.
ولا يفوتنا أن نقول إن لمراسلات الممثل السياسي مع دولته حرمة فهو حر في إرسال ما يشاء لدولته دون أن تمس مراسلاته أو تفضي سريتها، وكذلك لا تنتهك حرمة محفوظات السفارة ومسجلاتها بل يجب احترامها حتى في حالة قيام حرب بين الدولتين.
ثانيًا: الإعفاء من القضاء المحلي - القضاء المدني:
تقضي الامتيازات التي يتمتع بها الممثلون السياسيون بإعفائهم من القضاء المحلي ما دام معترفًا بدولتهم قانونًا [(19)] فلا يخضعون للقضاء المدني في البلاد التي يؤدون فيها وظائفهم فمثلاً إذا استدانوا فيها لا يمكن لدائنيهم أن يقاضوهم أمام المحاكم المحلية ولكن لا يفيد ذلك أن يفقد الدائن حقه بل له أن يقاضي الممثل السياسي في محاكم دولته إذ يعتبر أن محله القانوني Domécile legal لا يزال هناك كما أن له أن يلجأ لوزير الخارجية ليتخذ ما يراه من الوسائل السياسية حتى يدفع الممثل ديونه.
القضاء الجنائي:
وكذلك يعفى الممثل السياسي من القضاء الجنائي فلا يمكن اتخاذ إجراءات جنائية ضده أثناء قيامه بوظيفته ولو كانت خاصة بأعمال ارتكبها قبل تعيينه فيها وكذلك لا يمكن اتخاذ هذه الإجراءات بعد انتهاء وظيفته إذا كانت متعلقة بأعمال ارتكبت إبان تأديته لهذه الوظيفة ولكن لا يعني هذا الإعفاء أنه يفلت من العقاب إذ يمكن للحكومة المحلية التي ارتكب الممثل جريمته في أرضها أن تطلب من حكومته محاكمته لدى سلطتها المختصة وتوقيع الجزاء عليه ولا ترفض الدولة إجراء ذلك وإلا اعتبرت شريكة للممثل المجرم على أن للدولة أن تتخذ الإجراءات الشديدة لمنع الممثل السياسي المقيم على أرضها من الاستمرار في ارتكاب جرائم تخل بنظامها أو تمس الأمن فيها خصوصًا ما كان من نوع خطير كالمؤامرات وتدبير الفتن إذ يجوز لها في هذه الحالة أن تحاصر دار السفارة برجال البوليس وأن تراقبها مراقبة دقيقة كما يمكنها أن ترسل الممثل بحراس حوله إلى الحدود وتطلب من دولته معاقبته - وقلما يحدث أن يرتكب الممثلون السياسيون جرائم تدعو لمثل هذه الإجراءات ولكن حصل أثناء الحرب العظمى أن وقع من بعض الممثلين السياسيين في البلاد المحلية أعمالاً مخالفة للقانون فحدث في سنة 1915 أن البرنس دي روس سفير ألمانيا في طهران أخذ يجمع في إيران عصابات مسلحة لمحاربة الروسيين ودبر سفير النمسا في واشنطن قبل دخول أمريكا في الحرب بعض اعتصابات أراد بها منع صنع الأسلحة في المصانع الأمريكية وقام سفراء ألمانيا والنمسا وبلغاريا لدى الحكومة اليونانية ببعض أعمال التجسس ولكن انتهى الأمر في كل هذه الحالات بإخراج السفراء الذين ارتكبوا هذه الأفعال.
ولكن لا تتخذ هذه الإجراءات الشديدة إذا كانت الجريمة التي ارتكبها الممثل السياسي قليلة الأهمية إذ يكفي في هذه الحالة أن تنبهه الحكومة المحلية بصفة سرية أو تخابر حكومته بصفة خاصة ومن القواعد المسلم بها أنه يجب على الممثل السياسي أن يحترم تشريع البلد الذي يقيم فيه وأن يتبع أحكام لوائح البوليس والصحة وغيرها من الأنظمة الإدارية التي تضعها السلطة المحلية وإنما لا يمكن استعمال طرق إكراه ضده إلا إذا دعت إلى ذلك الضرورة كضبط ممثل سياسي أثناء تلبسه بجريمة معاقب عليها، وذلك لحمايته وحماية الجمهور إنما يجب الاقتصار في هذه الحالة على الضبط فلا تتخذ أية إجراءات جنائية بعد ذلك ضد الممثل كالتحقيق أو المحاكمة.
تأدية الشهادة:
وكذلك تقضي امتياز الإعفاء من القضاء المحلي بعدم إعلان الممثل السياسي لأداء الشهادة أمام السلطة المحلية ولا يمكن أن يكره على أداء شهادته ولكن يمكن أن يطلب منه إرسال شهادته كتابةً، ولا يجوز أن يطلب للحضور أمام المحقق في مكتبه بل على المحقق أن يذهب بنفسه لدار السفارة لأخذ المعلومات التي يريدها إذا وافق الممثل السياسي على ذلك [(20)].
وفي الواقع لا يحجم الممثلون السياسيون عن إنارة رجال التحقيق والسماح لهم بدخول دور السفارات لأخذ المعلومات التي يمكن أن ترشدهم للوصول إلى الحقيقة ما دام إبداء هذه المعلومات لا يضر بالمصالح الموكولة للممثلين أو يمس سر مهنتهم - إلا أن ذلك متروك لتقديرهم فلهم أن يمتنعوا عن مساعدة رجال السلطة المحلية ورفض إبداء أي معلومات وقد تشدد سفير إيطاليا في إنجلترا في سنة 1916 فمنع البوليس الإنجليزي من تحقيق حادثة موت السكرتير الأول للسفارة الإيطالية بعيار ناري في حجرته محتجًا في ذلك بإعفاء الممثلين السياسيين من القضاء المحلي.
ثالثًا: الإعفاء من الضرائب:
لا نُطيل كثيرًا في هذه النقطة إذ هي خارجة عن موضوع بحثنا في سلطة الدولة في المسائل الجنائية، ولكن نذكر عنها كلمة تكملة لبحث الامتيازات السياسية - إذ تقضي هذه الامتيازات بإعفاء الممثلين السياسيين من الضرائب الشخصية والمقررة وإنما لا يسري هذا الإعفاء على ما يمتلكه الممثل بصفة خاصة من عقارات في البلاد التي يقوم بأعماله الرسمية أما العقار الذي تملكه حكومته ليكون دارًا لسفارتها فيعفى من الضريبة - وقد جرى العرف من باب المجاملة على إعفاء لممثلين السياسيين أيضًا من رسوم الجمارك.


الاستاذ غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس